Posted by : مجالي البوق الاثنين، 31 مارس 2014




أحكام العمل بالرؤيا:

كان ما سبق بمثابة المقدمة والتمهيد للوصول إلى الحديث عن صلب هذا الموضوع وهو ما يتعلق بالعمل بالرؤى، وأحكام ذلك، واستخلاص الضوابط والشروط المتعلقة بهذا الخصوص، وقد مر بعض هذه الضوابط فيما مضى من الكلام وكان لا بد من التقديم بتلك المقدمة؛ لإيضاح بعض المفاهيم والتصورات الخاصة بالرؤى وتعبيرها، ولنشرع فيما أردنا الحديث عنه ونقرر المسائل المتعلقة بموضوع العمل بالرؤى.


 العمل بالرؤيا :


دل القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة على جواز العمل بالرؤيا- وإن كانت رؤيا واحدةً- بشرط عدم مخالفتها لما دل عليه الشرع ومن الأدلة على ذلك:

-  يوسف عليه السلام يبني على رؤيا الملك:

ذكر القرآن الكريم في سورة يوسف عليه- الصلاة والسلام- قصة ملك مصر ورؤيا البقرات السبع السمان اللاتي يأكلهنّ السبع العجاف، ومع كون الملك كافرًا إلا أن ذلك لم يمنع أن تكون رؤياه صادقة؛ ولذلك فسرها يوسف- عليه الصلاة والسلام- بما هو معروف، وكانت هذه الرؤيا بمثابة المرشد إلى وضع سياسةٍ اقتصاديةٍ لمصر  في المدة التي تضمنتها الرؤيا وهي أربعة عشرة سنة، ومن الواضح عمل النبي الكريم يوسف- عليه الصلاة والسلام- بهذه الرؤيا، والأصل الذي تقرر في علم الأصول أن شرع من قبلنا شرعٌ لنا إذا لم يأتِ في شرعنا ما يخالفه.



   -  يوسف عليه السلام وصاحبا السجن:

مما ذكره القرآن كذلك قصة يوسف عليه الصلاة والسلام مع الفتيين اللذين دخلا معه السجن، و كان كل منهما قد رأى رؤيا وفسره يوسف -عليه السلام- ، كانت صادقة مع كونهما كافرين، والمقصود أن يوسف بنى على رؤيا الناجي منهما - وهو ساقي الملك - ورتّب عليها عملًا وهو الطلب الذي طلبه منه كما قال تعالى:{وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُۥ نَاجٖ مِّنۡهُمَا ٱذۡكُرۡنِي عِندَ رَبِّكَ}[1] ,أي: اذكر قصتي وقضيتي عند الملك,  فهذا الطلب جاء بناء على ما اعتقده من نجاة هذا الفتى، فلا حرج أن يبني الإنسان على رؤيا ويخطط على أساسها أمرًا يتعلق بمستقبله قال تعالى:{ وَلَوۡ كُنتُ أَعۡلَمُ ٱلۡغَيۡبَ لَٱسۡتَكۡثَرۡتُ مِنَ ٱلۡخَيۡرِ وَمَا مَسَّنِيَ ٱلسُّوٓءُۚ إِنۡ أَنَا۠ إِلَّا نَذِيرٞ وَبَشِيرٞ لِّقَوۡمٖ يُؤۡمِنُونَ}[2] ،فلما كُشف الغيب المتعلق بأرض مصر عن طريق رؤيا الملك عمل يوسف عليه الصلاة والسلام بمقتضاه، ولما كُشف الغيب المتعلق بنجاة ساقي الملك عمل يوسف- عليه الصلاة والسلام- كذلك بمقتضاه, وهذا مع كون الرؤيا الواحدة تفيد الظن كما يُشعر بذلك قوله: {وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُۥ نَاجٖ مِّنۡهُمَا} ،وهذا على القول بتفسير الظن الذي هو خلاف اليقين كما هو ظاهر الآية الكريمة، وإلا فإن الظن يأتي بمعنى العلم اليقيني كما في قوله تعالى:{إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلَٰقٍ حِسَابِيَهۡ}[3] ,أي: تيقنت, ومن هذا نستخلص جواز العمل بالرؤيا الواحدة مع كونها تفيد الظن طالما أنها لا تخالف الشرع.


-  لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق:

ذكرَ ابن كثير - رحمه الله - في تفسيرهِ سبب نزولِ هذهِ الآية: {لَّقَدۡ صَدَقَ ٱللَّهُ رَسُولَهُ ٱلرُّءۡيَا بِٱلۡحَقِّۖ لَتَدۡخُلُنَّ ٱلۡمَسۡجِدَ ٱلۡحَرَامَ إِن شَآءَ ٱللَّهُ ءَامِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمۡ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَۖ فَعَلِمَ مَا لَمۡ تَعۡلَمُواْ فَجَعَلَ مِن دُونِ ذَٰلِكَ فَتۡحٗا قَرِيبًا}[4], فقال:
"  كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد أُرِيَ في المنام أنه دخل مكة وطاف بالبيت، فأخبر أصحابه بذلك وهو بالمدينة، فلما ساروا عام الحديبية لم يشك جماعة منهم أن هذه الرؤيا تتفسر هذا العام، فلمّا وقع ما وقع من قضية الصُّلح ورجعوا عامهم ذلك على أن يعودوا من قابل، وقع في نفوس بعض الصحابة من ذلك شيء، حتى سأل عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - في ذلك ، فقال له فيما قال : أفلم تكن تخبرنا أنا سنأتي البيت ونطوف به؟ قال: « بلى، أفأخبرتك أنك تأتيه عامك هذا؟ »  قال: لا. قال: « فإنك آتيه ومطّوِّفٌ به » " اهـ [5].

فهذه الرؤيا التي أشارت إليها الآية الكريمة حينما رآها النبي - صلى الله عليه وسلم - عمل وسعى لتحقيقها؛ فخرج من المدينة مع جمعٍ من أصحابه يبلغون نحوًا من ألفٍ وأربعٍ مئة رجلٍ, وصدّه المشركون مع من كان معه من أصحابه وتحققت الرؤيا في العام المقبل.

فالمسلم إذا تأسى بنبيه - صلى الله عليه وسلم - وسعى في العمل على تحقيق رؤيا رآها - وهي لا تخالف الشرع - فإنه لا يُنكَرُ عليه, وإن قُدِّر أن منعه مانعٌ من تحقيق الرؤيا في وقتٍ فإنه لا ييأس ويعيد الكرة فهي إن كانت رؤيا حقٍّ فلا بد أن تقع.

لا يُقال إنّ رؤيا الأنبياء حقٌّ بخلاف غيرهم؛ فإن الأصل في كل ما فعله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هو محل القدوة والتأسي به , إلا فيما قام الدليل على اختصاص النبي - صلى الله عليه وسلم - به دون غيره من الناس, وهو قد بيّن لأمتهِ أنه ليس يبقى بعده من النبوة إلا المُبشِّرات, وفسّرها بالرؤيا الصالحة يراها الرجل أو تُرى له, ولو كان أمر الرؤى قاصرًا عليه فقط  لما كان في هذا البيان المتعلق بالرؤى الصالحة فائدة, والواقع يدل على أن رؤى غير الأنبياء يكون فيها الحق والصدق , لكنَّ رؤى الأنبياء يؤخذ منها الحكم والتشريع بخلاف رؤى غيرهم، وكلامنا هنا إنما هو في العمل بالرؤى التي لا تخالف الشرع ولا يترتب عليها حكمٌ أو تشريع.

ولم يزل أهل العلم يستدلون بما ورد عن النبي- صلى الله عليه وسلم- فيما يتعلق بأمر الرؤى وكيف كان يعمل برؤى أصحابه- رضوان الله عليهم-، ومن ذلك ما ذكره الشاطبي- رحمه الله- عند ذكره لحديث ليلة القدر، وحديث عبد الله بن زيد في الأذان حيث قال: "  قال- عليه الصلاة والسلام- : « أريت ليلة القدر ثم أيقظني بعض أهلي فنسيتها ; فالتمسوها في العشر الغوابر» , وفي حديث آخر :« أرى رؤياكم قد تواطأت في السبع الأواخر ، فمن كان متحريها فليتحرها في السبع الأواخر» , ثم علق على هذين الحديثين بقوله: " فهذا بناء من النبي- صلى الله عليه وسل-م على رؤيا النوم" وتابع قائلا:  " ونحو ذلك وقع في بدء الأذان ، وهو أبلغ في المسألة. عن عبد الله بن زيد قال : لما أصبحنا أتينا رسول الله- صلى الله عليه وسل-م فأخبرته الرؤيا ; فقال :« إن هذه لرؤيا حق... الحديث »  ، إلى أن قال عمر بن الخطاب : والذي بعثك بالحق ; لقد رأيت مثل الذي رأى قال : فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: « فلله الحمد ; فذاك أثبت » "اهـ [6].

فهذا الكلام منه- رحمه الله تعالى- في بيان عمل النبي- صلى الله عليه وسلم- برؤى أصحابه- رضي الله عنهم- سواء فيما يتعلق بوقت ليلة القدر أو فيما يتعلق بتشريع الأذان برؤيا عبد الله بن زيد, فالمستفاد هو مشروعية العمل بالرؤى إلا فيما يتعلق برؤيا الأذان؛ فإن إقراره- صلى الله عليه وسلم- بما ورد فيها كان تشريعًا للأذان وهذا ليس إلى غير النبي- صلى الله عليه وسلم-، فيبقى العمل بالرؤيا فيما ليس فيه تشريع حكمٍ أو عبادةٍ؛ فإن الدين قد كمل في حياته- صلى الله عليه وسلم-.

يقول الشاطبي - رحمه الله -: "ولما ثبت أن النبي- صلى الله عليه وسلم- تصرف بمقتضى الرؤيا الصالحة كان مَن فعل مثل ذلك ممن اختص بشيء من هذه الأمور على طريقٍ من الصواب، وعاملاً بما ليس بخارجٍ عن المشروع لكن مع مراعاة شرط ذلك، والدليل على صحة ما تقدم أمران:

الأمر الأول: أن النبي- صلى الله عليه وسلم- عمل بمقتضى ذلك أمرًا ونهيًا وتحذيرًا وتبشيرًا وإرشادًا مع أنه لم يذكر أن ذلك خاص به دون أمته؛ فدل على أن الأمة حكمهم في ذلك حكمه- شأن كل عمل صدر منه ولم يثبت دليل على الاختصاص به دون غيره-.
الأمر الثاني: عمل الصحابة- رضوان الله عليهم- بالرؤى، ثم ذكر قول الصديق- رضي الله عنه- : إنما هما أخواك وأختاك."[7]



رؤيا الطفيل- رضي الله عنه-:

ومن ذلك ما أورده الشيخ محمد بن عبد الوهاب- رحمه الله تعالى- حينما ذكر في باب قول ماشاء الله وشئت رؤيا الطفيل- رضي الله عنه-، قال- رحمه الله-:
" ولابن ماجه عن الطفيل أخي عائشة لأمها قال: رأيت كأني أتيت على نفر من اليهود قلت : إنكم لأنتم القوم لولا أنكم تقولون عزير ابن الله , قالوا : وأنتم لأنتم القوم لولا أنكم تقولون ماشاء الله وشاء محمد, ثم مررت بنفر من النصارى , فقلت: أإنكم أنتم القوم لولا أنكم تقولون المسيح ابن الله , قالوا: وإنكم لأنتم القوم لولا أنكم تقولون ماشاء الله وشاء محمد, فلما أصبحت أخبرت بها من أخبرت، ثم أتيت النبي- صلى الله عليه وسل-، فأخبرته، قال: هل أخبرت بها أحد؟ قلت: نعم. قال: فحمد الله وأثنى عليه , ثم قال: أما بعد فإن طفيلًا رأى رؤيا أخبر بها من أخبر منكم وإنكم قلتم كلمة يمنعني كذا وكذا أن أنهاكم عنها فلا تقولوا ماشاء الله وشاء محمد ولكن قولوا ما شاء الله وحده" ، ثم ذكر في مسائل هذا الباب ما يستفاد من هذا الحديث فقال: " الخامسة: أن الرؤيا الصالحة من أقسام الوحي, السادسة: أنها قد تكون سببًا لشرع بعض الأحكام اهـ"[8].

وكون الرؤيا تكون سببًا لشرع بعض الأحكام فهذا إلى النبي- صلى الله عليه وسلم- خاصةً، وأما أن تكون الرؤيا سببًا لتشريع بعض الأحكام بعد وفاته- عليه الصلاة والسلام- فلا.
فالقدر المشترك الذي يستفاد من الأحاديث التي أخبرت أن النبي- صلى الله عليه وسلم- رتب عملاً على رؤيا هو جواز العمل بالرؤى، لكن إن كان فيها تشريعٌ لبعض الأحكام فهذا عمل خاص به- صلى الله عليه وسلم-، وإن لم يكن فيها تشريع فهو عمل يشترك فيه النبي- صلى الله عليه وسلم- وأمته.



عمل الصحابة- رضوان الله عليهم- بالرؤى:

لم يقتصر الأمر في العمل بالرؤى على النبي- صلى الله عليه وسلم-، وإن كان هذا كافيًا في بيان جواز العمل بها- بالشرط المتقدم-, وإنما تبعه على هذا أصحابه- رضوان الله عليهم- سواء منهم الخلفاء الراشدون أو عامتهم- رضوان الله عليهم-.


الصديق ينفذ وصية ثابت بن قيس:

ذكر ابن القيم- رحمه الله- هذه القصة في كتاب الروح فقال : " ونظير هذا من الفقه الذي خصّهم به دون الناس قصة ثابت بن قيس بن شماس، وقد ذكرها أبو عمر بن عبد البر وغيره، قال أبو عمر: أخبرنا عبد الوارث بن سفيان، حدثنا قاسم بن أصبغ، حدثنا أبو الزنباع روح بن الفرج، حدثنا سعيد بن عفير وعبد العزيز بن يحيى المدني، حدثنا مالك بن أنس عن ابن شهاب عن إسماعيل بن محمد بن ثابت الأنصارى عن ثابت ابن قيس بن شماس أن رسول الله قال له: « يا ثابت أما ترضى أن تعيش حميدًا وتُقتَل شهيدًا وتدخل الجنة », قال مالك: فقتل ثابت بن قيس يوم اليمامة شهيدًا. قال أبو عمر: روى هشام بن عمار عن صدقة بن خالد، حدثنا عبد الرحمن بن يزيد بن جابر قال: حدثني عطاء الخراساني قال: حدثتني ابنة ثابت بن قيس بن شماس قالت: لما نزلتْ: " يا أيها الذين آمنو لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي" دخل أبوها بيته وأغلق عليه بابه؛ ففقدَه رسول الله، وأرسل إليه يسأله ما خبره، قال: أنا رجل شديد الصوت أخاف أن يكون قد حَبِط عملي، قال: « لست منهم، بل تعيش بخير وتموت بخير» ، قال: ثم أنزل الله " إن الله لا يحب كل مختال فخور" فأغلق عليه بابه وطفق يبكي؛ ففقده رسول الله، فأرسل إليه فأخبره، فقال: يا رسول الله، إني أحب الجمال وأحب أن أَسُودَ قومي، فقال: «  لست منهم، بل تعيش حميدًا وتُقتَل شهيدًا وتدخل الجنة » ، قالت: فلما كان يوم اليمامة خرج مع خالد بن الوليد إلى مسيلمة، فلما التقوا وانكشفوا، قال ثابت وسالم مولى أبي حذيفة: ما هكذا كنا نقاتل مع رسول الله، ثم حفر كل واحد له حفرة فثبتا وقاتلا حتى قُتِلا، وعلى ثابت يومئذ درع له نفيسة؛ فمر به رجل من المسلمين فأخذها فبينما رجل من المسلمين نائم إذ أتاه ثابت في منامه فقال له: أوصيك بوصية فإياك أن تقول هذا حُلُـمٌ فتضيِّعَه، إني لما قتلت أمس مرّ بي رجل من المسلمين فأخذ درعي، ومنِزلُه في أقصى الناس، وعند خِبائه فرس يستن في طُوَلِه، وقد كفا على الدرع بُرْمَة، وفوق البُرْمَة رحْلُه، فأتِ خالدًا فمره أن يبعث إلى درعي فيأخذها، وإذا قدمْتَ المدينة على خليفة رسول الله- يعني أبا بكر الصديق- فقل له أن علي من الدين كذا وكذ،ا وفلان من رقيقي عتيق وفلان، فأتى الرجلُ خالدًا فأخبره؛ فبعث إلى الدرع فأتى بها وحدث أبا بكر برؤياه فأجاز وصيته، قال: ولا نعلم أحدًا أُجِيَزت وصيته بعد موته غير ثابت بن قيس- رحمه الله- انتهى ما ذكره أبو عمر".
ثم علق- رحمه الله- على هذه القصة بقوله: " فقد اتفق خالد وأبو بكر الصديق والصحابة معه على العمل بهذه الرؤيا وتنفيذ الوصية بها، وانتزاع الدرع ممن هي في يده وهذا محض الفقه" اهـ[9] .




-  قصة الصعب بن جَثّامة وعوف بن مالك:

ومن عمل الصحابة بالرؤى التي دلت القرائن على صحتها بالإضافة إلى قصة ثابت بن قيس بن شمّاس السابقة , القصة التي أوردها ابن القيم- رحمه الله- في شأنِ الصعب بن جثّامة وعوف بن مالك، قال- رحمه الله-:

" وصح عن حماد بن سلمة عن ثابت عن شهر بن حوشب أن الصعب بن جثّامة وعوف بن مالك كانا متآخيين، قال صعب لعوف: أي أخي، أيُّنا مات قبل صاحبه فليتراءى له، قال: أوَ يكون ذلك؟! قال: نعم، فمات صعبٌ فرآه عوف فيما يرى النائم كأنه قد أتاه، قال: قلت أي أخي، قال: نعم، قلت: ما فُعِل بكم؟ قال: غُفِر لنا بعد المصائب، قال: ورأيت لمعة سوداء في عنقه، قلت: أي أخي، ما هذا؟ قال عشرة دنانير استسلفتها من فلان اليهودي فهنّ في قرني فأعطوه إياها، واعلم أن أي أخي أنه لم يحدث في أهلي حدث بعد موتى إلا قد لحق بى خبره حتى هرة لنا ماتت منذ أيام، واعلم أن بنتى تموت إلى ستة أيام فاستوصوا بها معروفًا، فلما أصبحتُ قلت: إن في هذا لمعلمـًا فأتيت أهله فقالوا: مرحبا بعوف، أهكذا تصنعون بتركة إخوانكم؟ لم تقربنا منذ مات صعب، قال: فأتيت فاعتللت بما يعتلُّ به الناس، فنظرت إلى القرن فأنزلته فانتثلت ما فيه فوجدت الصرة التي فيها الدنانير فبعثت بها إلى اليهودي، فقلت: هل كان لك على صعب شيء؟ قال رحم الله صعبًا كان من خيار أصحاب رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم- هى له، قلت: لتخبرني، قال: نعم أسلفته عشرة دنانير، فنبذتها إليه، قال: هي والله بعيانها، قال قلت: هذه واحدة. 

قال فقلت: هل حدث فيكم حدث بعد موت صعب؟ قالوا: نعم، حدث فينا كذا حدث، قال قلت: اذكروا، قالوا: نعم، هرة ماتت منذ أيام، فقلت: هاتان اثنتان.

قلت: أين ابنة أخيه؟ قالوا: تلعب، فأُتِيتُ بها فمسستها فإذا هي محمومة، فقلت: استوصوا بها معروفًا فماتت في ستة أيام" .

ثُمَّ علق على هذه القصة التي صحح إسنادها، فقال:
"وهذا من فقه عوف- رحمه الله- وكان من الصحابة؛ حيث نفّذ وصية الصعب بن جثاّمة بعد موته، وعلم صحة قوله بالقرائن التي أخبره بها من أن الدنانير عشرة وهي في القرن، ثم سأل اليهودي فطابق قوله لما في الرؤي؛ا فجزم عوف بصحة الأمر، فأعطى اليهودي الدنانير، وهذا فقه إنما يليق بأفقه الناس وأعلمهم وهم أصحاب رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم-، ولعلّ أكثر المتأخرين يُنكِر ذلك، ويقول: كيف جاز لعوف أن ينقل الدنانير من تركة صعب وهي لأيتامه وورثته إلى يهودى بمنام" اهـ[10].
فهذا فيه العملُ بالرؤى التي دلت القرائن الحسيّة على صدقها , وفي هاتين القصتين (قصة ثابت بن قيس و قصة عوف بن مالك) عَمِلَ الصحابة برؤيا تتضمن بعض الأحكام - كما هو ظاهر في وصية ثابت التي في المنام- , فإنَّ فيها انتزاع الدرع ممن هي في يدهِ , واعتاقُ الرقيق مع أنه مالٌ يصير إلى الورثة .

ولهذا أَشْكَـلَ على بعض أهل العلم تخريجُ هذه القصة على الأصول التي قررها في أنَّ الرؤى لا ينبني عليها حُكم, قال الشاطبي- رحمه الله- : " وذلك أن هذه الأمور لا يصح أن تُرَاعى وتعتبر ; إلا بشرط أن لا تخرم حكمًا شرعيًا ولا قاعدةً دينية ; فإن ما يخرِم قاعدةً شرعية أو حكمًا شرعيًا ليس بحقٍّ في نفسه ، بل هو إما خيالٌ أو وهم ، وإما من إلقاء الشيطان ، وقد يخالطه ما هو حقٌّ وقد لا يخالطه ، وجميع ذلك لا يصح اعتباره من جهة معارضته لما هو ثابتٌ مشروع ؛ وذلك أن التشريع الذي أتى به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عامٌ لا خاص- كما تقدم في المسألة قبل هذا- , وأصله لا ينخرم ، ولا ينكسر له اطّراد ، ولا يحاشى من الدخول تحت حكمه مكلّف ، وإذا كان كذلك فكل ما جاء من هذا القبيل الذي نحن بصدده مضادًا لما تمهّد في الشريعة ; فهو فاسدٌ باطل ".[11]

ولـمّا خالفت هذه القصة - أعني قصة ثابت بن قيس وإنفاذ أبي بكر -رضي الله عنه- للوصية- لمّا خالفت هذا الأصل الذي قرره في المسألةِ السابقةِ , أجاب عنها بقوله: " وما روي " أن أبا بكر- رضي الله عنه- أنفذ وصية رجل بعد موته برؤيا رئيت " ; فهي قضية عين لا تقدح في القواعد الكلية لاحتمالها ، فلعلّ الورثة رضوا بذلك، فلا يلزم منها خرم أصل"[12].

ولكنَّ ظاهر كلام ابن القيم - رحمه الله تعالى - وما علّقَ بهِ على قصتي الصعب بن جثامة و ثابت بن قيس أنَّ هذا النوع من الرؤى يُعمَل به ولكن بشرط أن تدل القرائن الحسية على صدقهِ.

والقرائنُ الحسية المقصود بها: علامات وأمارات وردَتْ في الرؤيا تبيَّن صدق الرؤيا بوجود هذه العلامات في الواقع ؛ فلا يمكن أن يكون بعض الرؤيا صادقًا وبعضهُ كاذبًا , أو تكون الرؤيا في أولها حق وفي آخرها باطل.

وقد ذهب إلى هذا القولِ الشيخ محمد بن عُثيمين- رحمه الله- ؛ حيث ذكر تعليقًا على المسألةِ السادسة من مسائل باب قول ما شاء الله وشئت من كتاب التوحيد , وقد مرّت معنا هذه المسألة عند الكلامِ على رؤيا الطُّفيل - رضي الله عنه - حيث قال- رحمه الله- : " المسألة السادسة : أنها قد تكون سببًا لشرع بعض الأحكام , من ذلك رؤيا إبراهيم-  عليه الصلاة والسلام- أنه يذبح ابنه, وهذا الحديث، كذلك أثبت النبي- صلى الله عليه وسلم- رؤيا عبد الله بن زيد في الأذان , فقال النبي -صلى الله عليه وسلم- إنها رؤيا حق , وأبو بكر- رضي الله عنه- أثبت رؤيا من رأى ثابت بن قيس بن شماس , فقال للذي رآه : إنكم ستجدون درعي تحت بُرْمَة وعندها فرس يستن فلمّا أصبح بادر وذهب إلى خالد بن الوليد وأخبره , فذهبوا إلى المكان ورأوا درعًا تحت البُرْمَة عندها الفرس , فنفّذَ أبو بكر وصيّته؛  لوجود القرائن التي تدل على صدقها , لكنْ لو دلت على ما يخالف الشريعة فلا عبرة بها، ولا يُلتَفت إليها؛ لأنها ليست رؤيا صالحة"[13].


يتبع..




[1]  سورة يوسف, آية:42.
[2] سورة الأعراف, آية:188.
[3] سورة الحاقة, آية:20.
[4] سورة الفتح, آية:27.
[5] انظر (تيسير العلي القدير لاختصار تفسير ابن كثير) لمحمد  الرفاعي,ج:4 -ص:209-210.
[6] انظر (الموافقات) للشاطبي,ج:4 -ص:466-467.
[7] انظر (الموافقات) للشاطبي,ج:2 -ص:446-454.
[8] انظر (القول المفيد على كتاب التوحيد), ج:2 -ص:412-421.
[9] انظر (الروح) لابن القيم، ص:15.
[10] انظر (الروح) لابن القيم، ص: 14.
[11] انظر (الموافقات) للشاطبي,ج:2 -ص:457.
[12] انظر (الموافقات) للشاطبي,ج:2 -ص:458.
[13] انظر (القول المفيد على كتاب التوحيد),ج:2 -ص:421.

Leave a Reply

Subscribe to Posts | Subscribe to Comments

- Copyright © مجالي البوق - Skyblue - Powered by Blogger - Designed by Johanes Djogan -