Posted by : مجالي البوق الثلاثاء، 1 أبريل 2014




أحكام رؤية النبي- صلى الله عليه وسلم- في المنام:

ومن الرؤى المهمة التي اعتنى العلماء بذكر ما يتعلق بها من الأحكام في كُتُبهم , رؤية النبي- صلى الله عليه وسلم- في المنام , وهل يترتب على رؤياهُ حكمٌ أم لا ؛ وذلك لأنَّ رؤيتهُ- عليه الصلاة والسلام- في المنام ليست كرؤية غيره من الناس, حيث قال- عليه الصلاة والسلام- : « من رآني في المنام فقد رآني؛ فإن الشيطان لا يتمثل بي»[1], وقال أيضًا :« من رآني فقد رأى الحق»[2].

وهذه بعضُ أقوالِ أهلِ العلم في هذه المسألة:

قال الشوكاني -رحمه الله- في المسألة السابعة :" في رؤيا النبي- صلى الله عليه وسلم- , ذكر جماعة من أهل العلم : منهم الأستاذ أبو إسحاق " أنه يكون حجة ويلزم العمل به" وقيل : لا يكون حجة ولا يثبت به حكم شرعي وإن كانت رؤية النبي- صلى الله عليه وسلم- رؤية حق والشيطان لا يتمثل به، لكنّ النائم ليس من أهل التحمل للرواية؛ لعدم  حفظه , وقيل: إنه يعمل به ما لم يخالف شرعًا ثابتًا , ولا يخفاك أن الشرع الذي شرعه الله لنا على لسان نبينا- صلى الله عليه وسلم- قد كمّله الله- عز و جل- وقال: " اليوم أكملت لكم دينكم " ، ولم يأتنا دليل يدل على أن رؤيته في النوم بعد موته- صلى الله عليه وسلم- إذا قال فيها بقول أو فَعَلَ فيها فعلاً يكون دليلاً وحجة، بل قبضه الله إليه بعد أن كمّل لهذه الأمة ما شرعه الله لها على لسانه، ولم يبق بعد ذلك حاجة للأمة في أمر دينها، وقد انقطعت البعثة لتبليغ الشرائع وتبيينها بالموت وإن كان رسولاً حيًا وميتًا، وبهذا تعلم أن لو قدّرنا ضبط النائم لم يكن ما رآه من قوله- صلى الله عليه وسلم- أو فعله حجة عليه ولا على غيره من الأمة" اهـ [3].

هذا ما ذهب إليه الشوكاني - رحمه الله -، وفيما قاله نظر؛ " ﻓﻘﺪ جاءنا ﻋﻠﻰ أنّ رؤيته - صلى الله عليه و سلم - في المنام ﻋﻠﻰ ﺻﻔﺘﻪ التي كان ﻋﻠﻴﻬﺎ رؤيا ﺣﻖ، فإذا ﺛﺒﺖ ذلك ﻛﺎن ﻣﺎ ﻗﺎﻟﻪ أﻳﻀًﺎ ﺣﻖ، ﻓَﻠِﻢ ﻻ ﻳُﻌﻤَﻞ به استئناسًا فيماﱂ ﻳﺜﺒﺖ اعتباره أو إلغاؤه؟"[4] ، والعمل به في هذه الحال ليس عملًا بما يخالف الشرع؛ لأن الرؤيا إن كانت صادقةً فإنها لا يمكن أن تخالف الشرع، وإنما تأتي مطابقةً له، وقد تقدّم قول ابن القيم - رحمه الله - في هذا[5].

وقال القرافي - رحمه الله -:" فَلَوْ رَآهُ - أي النبي صلى الله عليه وسلم- فِي النَّوْمِ فَقَالَ لَهُ إِنَّ امْرَأَتَكَ طَالِقٌ ثَلَاثًا وَهُوَ يَجْزِمُ بِأَنَّهُ لَمْ يُطَلِّقْهَا هَلْ تَحْرُمُ عَلَيْهِ ,وَقَعَ فِيهِ الْبَحْثُ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ إِخْبَارَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي الْيَقَظَةِ مُقَدَّمٌ عَلَى الْخَبَرِ فِي النَّوْمِ؛ لِتَطَرُّقِ الِاحْتِمَالِ لِلرَّائِي بِالْغَلَطِ فِي ضَبْطِ الْمِثَالِ وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ لَهُ عَنْ حَرَامٍ إِنَّهُ حَلَال أَو عيّن حكمًا على الشَّرِيعَةِ قَدَّمْنَا مَا ثَبَتَ فِي الْيَقَظَةِ عَلَى مَا رُئي فِي النّوم؛ لما ذَكرْنَاهُ كَمَا لَوْ تَعَارَضَ خَبَرَانِ مِنْ أَخْبَارِ الْيَقَظَةِ فَإِنَّا نُقَدِّمُ الْأَرْجَحَ  " اهـ[6] .

وكلام القرافي هنا مستقيم ولا لبس فيه؛ لأجل أن الممنوع هو العمل بما يعارض الشرع.


يقول ابن دقيق العيد في شرحه على العمدة: "وقد تكلّم الفقهاء فيما لو رأى النبي- صلى الله عليه وسلم- في المنام ، وأمره بأمر : هل يلزمه ذلك ؟ وقيل فيه : إن ذلك
إما أن يكون مخالفًا لما ثبت عنه- صلى الله عليه وسلم- من الأحكام في اليقظة أو لا، فإن كان مخالفًا عمِل بما ثبت في اليقظة ؛ لأنّا - وإن قلنا : بأن من رأى النبي - صلى الله عليه وسلم- على الوجه المنقول من صفته ، فرؤياه حق - فهذا من قبيل تعارض الدليلين ، والعمِل بأرجحهما . وما ثبت في اليقظة فهو أرجح ، وإن كان غير مخالف لما ثبت في اليقظة : ففيه خلاف" اهـ[7] .


ويقصِدُ بالخلاف , أنَّ هناك من يرى أنَّها حُجة يُعملُ بها , وهناك من يرى أنها ليست حجة ولا يُعملُ بها- على نحو ما ذكرهُ الشوكاني آنفًا- , ولا شكَّ أنَّ العملَ برؤيا النبي- صلى الله عليه وسلم- في المنام والتي لا تخالفُ شرعهُ في اليقظةِ إمّا لازمٌ أو جائزٌ , وهذا يختلف بحسبِ نوعِ المأمورِ بهِ أو المنهيِّ عنهُ في الرؤيا , وهل هوَ في أحكام الشرعِ واجبٌ  أو مستحبٌ؛ فإن كان ما أمرَ به في الرؤيا من الواجبات وجبَ العملُ بها , وإن كان ما أمرَ به في الرؤيا من المستحباتِ اُستحب لهُ العملُ بها, والله أعلم.


وذكر ابن القيم عند الكلام على مسألة الاشتراط في التوبة والدعاء ما نصه: " وكذلك المصلِّي على الميت شُرِع له تعليق الدعاء بالشرط ، فيقول : اللهم أنت أعلم بسره وعلانيته ، إن كان محسنًا فتقبل حسناته ، وإن كان مسيئًا فتجاوز عن سيئاته ; فهذا طلب للتجاوز عنه بشرط ، فكيف يمُنَع تعليق التوبة بالشرط ؟
وقال شيخنا -يعني ابن تيمية- : كان يشكل عليّ أحيانًا حال من أصلي عليه الجنائز ، هل هو مؤمن أو منافق ؟ فرأيت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- في المنام فسألته عن مسائل عديدة منها هذه المسألة ، فقال : يا أحمد الشرط الشرط ، أو قال : علق الدعاء بالشرط" اهـ[8] .


فهذا فيه أنَّ شيخ الإسلام ابن تيمية- رحمه الله- أشْكَلَتْ عليه مسألة الاشتراط في الدعاء للميت إذا جُهِلَ حالهُ وشكَّ في كونه مسلمًا أو غيرَ مسلمٍ , فعمل بهذه الرؤيا في هذه المسألة وهو مصيرٌ من ابن تيمية- رحمه الله- في أن للرؤى مدخلاً في المسائل العلمية وتوجيه الرائي إلى العمل بشيءٍ ما في مسألةٍ من المسائلِ- كما في هذه القصة-.

وهو يرى أنَّ الرائي ينتفعُ برؤياهُ من حيثُ زيادةُ الإيمان لكنّهُ لا يُلزِمُ غيرهُ بما رآهُ , ويرى كذلك أنَّ للإلهامِ والرؤيا الصادقة أثرٌ في الترجيحِ بينَ الأدلة , يقول - رحمه الله  تعالى -: "فقد يكشف لكثير من أبناء زماننا يقظةً ومناماً ويعلمون ذلك ويتحققونه، وعندنا من ذلك أمور كثيرة لكن الجواب في المسائل العلمية يُعتمَد فيه على ما جاء به الكتاب والسنة فإنه يجب على الخلق التصديق به وما كُشِف للإنسان من ذلك أو أخبره به من هو صادق عنده فهذا يَنْتَفِعُ به مَنْ عَلِمَهُ، ويكون ذلك مما يزيده إيمانًا وتصديقًا بما جاءت به النصوص، ولكن لا يجب على جميع الخلق الإيمان بغير ما جاءت به الأنبياء"[9].

وقال أيضًا: "ففي مثل هذه الحال التي لا يتبين الأمر الشرعي في الواقعة المعينة يأمر الشيخ عبد القادر وأمثاله من الشيوخ " تارةً " بالرجوع إلى الأمر الباطن والإلهام إن أمكن ذلك و " تارةً " بالرجوع إلى القدَر المحض؛ لتعذُّرِ الأسبابِ المرجِّحَةِ من جهة الشرع كما يرجِّح الشارع بالقُرعة ؛ فهم يأمرون ألا يُرجِّح بمجرّد إرادته وهواه؛ فإن هذا إما محرمٌ وإما مكروهٌ وإما منقِصٌ ، فهم في هذا النهي كنهيهم عن فضول المباحات ، ثمّ إن تبين لهم الأمر الشرعي وجب الترجيح به وإلاّ رجحَّوا : إما " بسببٍ باطن " من الإلهام والذوق وإما " بالقضاء والقدر " الذي لا يُضَاف إليهم.

ومن يرجِّح في مثل هذه الحال " باستخارة الله " كما كان النبي- صلى الله عليه وسلم- يعلم أصحابه الاستخارة في الأمور كلها كما يعلمهم السورة من القرآن فقد أصابوهذا كما أنّه إذا تعارضت أدلة " المسألة الشرعية " عند الناظر المجتهد وعند المقلِّد المستفتي  -بأي شيء يرجِّح-  فإنه لا يرجِّح شيئًا، بل ما جرى به القدر أقرُّوه ولم ينكروه ، وتارةً يرجِّح أحدهم : إما بمنام، وإما برأيٍ مشيرٍ ناصحٍ، وإما برؤية المصلحة في أحد الفعلين"[10].

وهكذا فإنك ترى شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - يرى أنه يمكن أن يكون الترجيحُ بين الأدلة الشرعية المتعارضة بالرؤيا (أي بالمنام)- إذا تعذّر عليه الترجيح بمقتضى الأدلة الشرعية-، وعملُه بالرؤيا المتقدِّمة في مسألة الاشتراط في الدعاء للميت تطبيقٌ عمليٌّ واضحٌ لِما يراه.

وقد ذكر الشيخ ابن عثيمين - رحمه الله - قصة هذه الرؤيا فقال: "وقد ذكر ابن القيم في أعلام الموقعين عن شيخه ابن تيمية- رحمه الله- أنه أشكل عليه مسائل من مسائل الدين أو الفقه فرأى النبي= صلى الله عليه وسلم- في المنام وكان من جملة ما أشكل عليه أنه تُقَدَّم له جنائز لا يدري هل هو مسلم أم لا، فقيل له: عليك بالشرط يا أحمد: يقول له الرسول- عليه الصلاة والسلام- في المنام: عليك بالشرط يا أحمد، وهذا سند ابن القيم عن شيخه ابن تيمية سندٌ صحيح؛ لأن الرجلين كلاهما ثقة ولا يقول قائل إننا اعتمدنا هنا على إثبات حكمٍ شرعيٍ برؤيا؛ لأن هذه الرؤيا يؤيدها القرآن- كما أشرنا إليه قبل قليل- في قصة اللعان وهو أن الاستثناء في الدعاء سائغٌ ،وعلى هذا فإن هذه الرؤيا موافقة لقواعد الشريعة فيُعمَل بها"اهـ[11].

فهذا تقرير من الشيخ- رحمه الله- في جواز العمل بمثل هذه الرؤى التي تشهد لها النصوص الشرعية , وأنَّ الاحتجاج بها لم يأتِ استقلالًا،ا بل لأنَّ هناك من نصوص الشريعة ما يشهد لها , فالاحتجاج حقيقةً هو بنصوصٍ شرعية , والرؤيا إنما كانت فائدتُها تنبيه الرائي على موضع الدليل كما  مرَّ ذكرهُ عند الكلامِ على رؤيا أبي يزيد البسطامي وكلام الشاطبي- رحمه الله- عنها[12].



-  فتيا العز بن عبد السلام:

ومن التطبيقات العملية لأهل العلم فيما إذا اشتملت رؤية النبي- صلى الله عليه وسلم- على أمر يخالف الشرع ما مر معنا في مسألة ابن رشد التي ذكرها الشاطبي- رحمه الله- في مسألة الحاكم  (القاضي) الذي رأى النبي- عليه الصلاة والسلام- ينهاه عن اعتبار شهادة الشهود الذين شهدوا عنده في قضية من القضايا، وما أفتى به ابن رشد في مسألة العمل بهذه الرؤيا.

 ومن التطبيقات العملية كذلك ما ذكره صاحب تهذيب الفروق عن العز بن عبد السلام حيث قال: " قال العز بن عبد السلام لرجل رأى النبي- صلى الله عليه وسلم- في المنام يقول له: إن في المحل الفلاني ركازًا، اذهب فخذه ولا خمس عليك فذهب ووجده واستفتى ذلك الرجل العلماء ، فقال له العز : أخرج الخمس فإنه ثبت بالتواتر ، وقصارى رؤيتك الآحاد" اهـ [13].

فهذه الرؤيا دلّت القرينة الحسية على كونها صادقة؛ حيث وُجِد الركاز في المكان الذي أرشد إليه الرسول- صلى الله عليه وسلم- في الرؤيا, ومع أن رؤية النبي- صلى الله عليه وسلم- في المنام حق، إلا أن هذا العالم لم يُسقط حكم الخُمس الواجب إخراجه من الركاز - وهو ما وُجد من دِفن الجاهلية -؛ لأن هذا الحكم ثبت بالتواتر   - كما يقول العز بن عبد السلام-, وهذه الرؤيا من قبيل الآحاد وقد تقرّر في الأصول أنه لو تعارض خبر متواتر وخبر آحاد قدمنا الخبر المتواتر, وهذا كله يدلك على أنه لابد في العمل برؤيا النبي- صلى الله عليه وسلم- أن لا تخالف ما ثبت عنه من الشرع في اليقظة ؛ فهذا ضابط وشرط للعمل برؤيا من رأى النبي- صلى الله عليه وسلم- في المنام. 




-  الإمام مسلم ورؤيا حمزة الزيات:

إنّ من صور إيراد علماء الحديث للرؤى في كتبهم في معرض الاستئناس بالرؤيا فيما يتعلق بمعرفة أحوال الرواة ما ذكره الإمام مسلم- رحمه الله- في صحيحه بشأن أحد رواة الحديث وهو أبان بن أبي عياش، قال- رحمه الله-: " وحدثنا الحسن الحلواني  قال: سمعت عفان قال: سمعت أبا عُوَانة قال: ما بلغني عن الحسن حديث إلا أتيت به أبان بن أبي عياش فقرأه عليّ.  وحدثنا سويد بن سعيد: حدثنا علي بن مسهر قال: سمعت أنا وحمزة الزيات من أبان بن أبي عياش نحوًا من ألف حديث. قال علي: فلقيت حمزة فأخبرني أنه رأى النبي- صلى الله عليه وسلم- في المنام فعرض عليه ما سمع من أبان فما عرف منها إلا شيئًا يسيرا خمسة أو ستة."[14]

وقد علّق الإمام النووي على إيراد مسلم لهذه الرؤيا بقوله: " قوله ( إن حمزة الزيات رأى النبى- صلى الله عليه و سلم فى المنام، فعرض عليه ما سمعه من أبان فما عرف منه إلا شيئا يسيرًا ) قال القاضي عياض - رحمه الله - : هذا ومثله استئناس واستظهار على ما تقرّر من ضعف أبان، لا أنه يقطع بأمر المنام، ولا أنه تبطل بسببه سنة ثبتت، ولا تثبت به سنة لم تثبت، وهذا بإجماع العلماء. هذا كلام القاضي وكذا قاله غيره من أصحابنا وغيرهم فنقلوا الاتفاق على أنه لا يُغَيَّر بسبب ما يراه النائم ما تقرر فى الشرع"[15].

فتأمل كيف يورد هذا الإمام الكبير من أئمة الحديث مثل هذه الرؤيا التي تؤكد ما قيل عن أبان بن أبي عياش من قبل علماء الجرح والتعديل، ولولا أن لرؤيا النبي    - صلى الله عليه وسلم- قدر وشأن عندهم لم يوردها في بيان حال راوٍ من الرواة.




 -  الإمام أبو داود ورؤيا في أبي عياش:

ومن أمثلة استئناس أئمة الحديث بالرؤى في معرفة حال الرواة وإيرادهم لبعض الأحاديث ما ذكره الإمام أبو داود في سننه حيث قال: " حدثنا موسى بن إسمعيل، حدثنا حماد ووهيب نحوه عن سهيل عن أبيه عن ابن أبي عائش، وقال حماد عن أبي عياش أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: " من قال إذا أصبح لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير كان له عدل رقبة من ولد إسماعيل وكتب له عشر حسنات وحط عنه عشر سيئات ورفع له عشر درجات وكان في حرز من الشيطان حتى يمسي وإن قالها إذا أمسى كان له مثل ذلك حتى يصبح" قال في حديث حمادفرأى رجل رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فيما يرى النائم فقال:  يا رسول الله، إن أبا عياش يحدث عنك بكذا وكذا قال" صدق أبو عياش"[16].

وهذا إنما أورده أبو داود- رحمه الله- ؛لأن فيه تأييدًا لرواية أبي عياش بالإضافة إلى ما ذكره علماء الحديث فيه- رحمه الله-.


-  ابن قدامة و رؤيا عمر :

و هذا الموفق ابن قدامة صاحب المغني و هو من ائمة أهل العلم و الفقه يستأنس بذكر رؤيا في مسألة فقهية يقول- رحمه الله- :
"إذا ثبت هذا ، فإن المقبِّل إذا كان ذا شهوةٍ مفرطة ، بحيث يغلب على ظنه أنه إذا قبّل أنزل ، لم تحل له القبلة ; لأنها مفسدة لصومه ، فحرمت ، كالأكل ، وإن كان ذا شهوة ، لكنه لا يغلب على ظنه ذلك ، كره له التقبيل ; لأنه يعرِّض صومه للفطر ، ولا يأمن عليه الفساد .

وقد روي عن عمر ، أنه قال : رأيت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- في المنام ، فأعرض عني ، فقلت له : ما لي ؟ فقال : « إنك تقبُّل وأنت صائم »[17].

فأنت ترى أن الموفّق - رحمه الله - يستأنس بذكر رؤيا عمر بن الخطاب- رضي الله عنه- في تقرير كراهة القبلة للصائم على النحو الذي ذكره، و هذه الرؤيا وردت في أثر أخرجه ابن أبي شيبة- رحمه الل-ه في مصنفه حيث قال : حدثنا أبو أسامة عن عمرو بن حمزة قال: أخبرني سالم عن ابن عمر قال : قال عمر رأيت رسول الله  - صلى الله عليه وسلم-  في المنام فرأيته لا ينظرني ، فقلت : يا رسول الله ، ما شأني ؟ قال :« ألست الذي تقبِّل وأنت صائم» ، قلت : والذي بعثك بالحق لا أقبِّل بعدها وأنا صائم[18].

و بهذا نعرف أن أهل العلم قد يستأنسون بالرؤى إذا وافقت حكمًا شرعيًّا- كفعل مندوب أو ترك مكروه-، و أنه يستحب العمل على وِفقها.

قال النووي رحمه الله : " أما اذا رأى النبى- صلى الله عليه و سلم- يأمره بفعل ما هو مندوب إليه، أو ينهاه عن منهِيٍّ عنه، أو يرشده إلى فعل مصلحة فلا خلاف فى استحباب العمل على وِفقه؛ لأن ذلك ليس حكمًا بمجرّد المنام، بل تقرّر من أصل ذلك الشيء،  والله أعلم"[19].

فهذه جملةٌ من أوجه استئناس أهل العلم بالرؤى- منهم المحدثون و منهم الفقهاء-، و كل هذا يدلك على مكانة الرؤى و قدرها في نفوسهم، وبخاصة التي يُرى فيها النبي - صلى الله عليه و سلم-، ولو لم تكن بهذه المثابة؛ لما ذكروها في كتبهم- رحمهم الله-، وهم بذلك رسموا لنا منهجًا في كيفيَّة التعامل مع الرؤى و الأحوال التي يُستأنَس بها فيها على ضوء ما أكرمهم الله به من العلم في الفقه و الحديث؛ فجزاهم الله عنا خيرًا.



رؤيا غدًا من رمضان:

ذكرتُ فيما مضى أمثلة لرؤى رؤي فيها النبي- صلى الله عليه و سلم- و كيف تعامل العلماء مع تلك الرؤى- و خاصة التي تخالف الشرع- ، و كذلك كيف أنهم أوردوا هذه الرؤى في معرفة أحوال بعض رواة الحديث ، و هنا أذكر - تتميمًا للفائدة - ما ذكره النووي- رحمه الله -في مسألة دخول شهر رمضان حيث قال : " لو كانت ليلة الثلاثين من شعبان ، ولم ير الناس الهلال ، فرأى إنسان النبي- صلى الله عليه وسلم- في المنام فقال له : الليلة أول رمضان، لم يصحّ الصوم بهذا المنام- لا لصاحب المنام ولا لغيره -. ذكره القاضي الحسين في الفتاوى، وآخرون من أصحابنا ونقل  القاضي عِيَاض   الإجماع عليه "[20].

وهذه المسألة قد تكون افتراضية ، و قد تكون وقعت و بيّن فيها النووي الحكم المتعلق بها مما يتفق مع ما ذكرناه في أمر العمل بالرؤى و الحمد لله .

و قد ذكرتُ ما أمكن جمعه من المرائي التي فيها النبي- صلى الله عليه و سلم- مما ذكره أهل العلم في كتبهم و ما يتصل بها من الكلام عليها، وجمعته كلّه في هذا الموضع؛ لاتصاله بأحكام رؤيته- عليه الصلاة و السلام- في المنام حتى يسهل على القارئ الرجوع اليها متى ما أراد ذلك مع ما قد يكون بينها من الاختلاف في الأحكام المتعلقة بها- على نحو ما سبق ذكره- و الله الموفق .





يتبع..





[1] رواه البخاري من حديث أنس -رضي الله عنه- برقم (6994) , انظر فتح الباري بشرح صحيح البخاري ,ج:12 -ص:383.
[2] رواه البخاري من حديث أبي قتادة -رضي الله عنه- برقم (6996) , انظر فتح الباري بشرح صحيح البخاري ,ج:12 -ص:383.
[3] انظر (إرشاد الفحول) للشوكاني , ص: 249.
[4] انظر الرؤى الصادقة حجيتها وضوابطها ضمن (مجلة جامعة أم القرى لعلوم الشريعة واللغة العربية وآدابها) ,ج:19, ع:42 -ص:19.
[5] تقدم ذكره عند الكلام على ( الرؤيا الحق لا تخالف الشرع) .
[6] انظر (الذخيرة) للقرافي,ج:13 -ص:273.
[7] انظر ( إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام) لابن دقيق العيد, ج:3  -ص:248-249.
[8] انظر (إعلام الموقعين عن رب العالمين), ج:3 -ص:387.
[9] انظر (مجموع فتاوى شيخ الإسلام أحمد بن تيمية) جمع وترتيب:عبد الرحمن الحنبلي وابنه محمد,  ج: 24-ص: 376.
[10] انظر (مجموع فتاوى شيخ الإسلام أحمد بن تيمية) جمع وترتيب:عبد الرحمن الحنبلي وابنه محمد,  ج: 10-ص: 471-472.
[12]  تقدم ذكره عند الكلام (الرؤيا للتأنيس والبشارة والنذارة) .
[13] انظر (الموسوعة الفقهية) , ج:22 -ص:11.
[14] انظر (صحيح مسلم), ت: محمد فؤاد عبد الباقي , ج:1 -ص:25 (المقدمة : الباب :5/حديث:7).
[15] انظر (صحيح مسلم بشرح النووي) ج:1 -ص:115 (الكشف عن معايب رواة الحديث).
[16] انظر (عون المعبود شرح سنن أبي داود) , حديث رقم (5056), ج:13 -ص:417-419.
[17] انظر (المُغْني) لابن قدامة, ج:3 -ص:48.
[18] انظر (المصنف لابن أبي شيبة), ت:محمد عوامة, ج:16 -ص:57 , حديث رقم (31144).
[19] انظر (شرح النووي على صحيح مسلم) , ج:1 -ص:115 (الكشف عن معايب رواة الحديث).
[20] انظر (المجموع شرح المهذّب) ، ج:6 -ص:281. 

Leave a Reply

Subscribe to Posts | Subscribe to Comments

- Copyright © مجالي البوق - Skyblue - Powered by Blogger - Designed by Johanes Djogan -