Posted by : مجالي البوق الثلاثاء، 1 أبريل 2014




أوجه العمل بالرؤيا:

تقرر فيما سبق أن العمل بالرؤى يكون فيما لم يخالف الشرع, وأنه جائز إذا دلت القرائن على صحتها و صدقها- سواء القرائن الحسية أو القرائن الشرعية-, وأنه يجوز العمل بها استئناسًا في معرفة أحوال الرواة وفي الترجيح بين الأدلة وفي اختيار أحد الأقوال في المسألة إلى غير ذلك مما سبق الكلام عليه ، ونضيف هنا  أوجهًا أخرى للعمل بالرؤى.

 والعامل بالرؤى لا يخلو عمله بها من أحد هذه الأوجه :

 الأول:" أن يكون في أمر مباح ، كأن يرى المكاشف أن فلانًا يقصده في الوقت الفلاني ، أو يعرف ما قصد إليه في إتيانه من موافقة أو مخالفة ، أو يطّلع على ما في قلبه من حديث أو اعتقاد حقٍّ أو باطلٍ ، وما أشبه ذلك ; فيعمل على التهيئة له حسبما قصد إليه ، أو يتحفظ من مجيئه إن كان قصده الشر ; فهذا من الجائز له ، كما لو رأى رؤيا تقتضي ذلك ، لكن لا يعامله إلا بما هو مشروع" [1].

ذكر هذا الشاطبي- رحمه الله-, ونظرا لأن أمر الكشف لا يعنينا هنا فإني أعدت كتابة هذا الوجه بصياغة أخرى تتعلق بالرؤيا؛ لأنها نوع من الكشف لكنه في المنام و ليس في اليقظة وذلك على النحو التالي كالشرح والتفسير له:
الأول: أن يكون في أمر مباح, كأن يرى الرائي رؤيا أن فلانًا يقصده في الوقت الفلاني, أو يرى رؤيا تدل على ماقصد إليه في إتيانه من موافقة أو مخالفة, أو يرى رؤيا تخبره عما قام في قلبه من اعتقاد حقٍّ أو باطلٍ أو حقد أو خيانة وما شابه ذلك, ففي هذه الحالة يتهيّأ لمعاملة هذا الشخص الذي رأى فيه هذه الرؤيا بأن يستعد لاستقباله، أو يحذر في التعامل معه ومخاطبته، أو يتحفظ من مجيئه- إذا دلت الرؤيا على أن قصده الشر-, فهذه الأحوال يجوز له أن يعمل فيها بما دلت عليه الرؤيا من الاستعداد له وأخذ الحيطة والحذر, ولكنه يعامله بحسب الشرع من إجراء الأحكام على الظاهر فيرد عليه السلام، ويعامله بسائر الحقوق الشرعية.

فالرؤيا هنا عمل صاحبها بأمر مباح وكانت نافعة له من جهة أنها نبّهته على أمر يتعلق بشخص أو حدث فيأخذ حذره ويستعد في التعامل معه ولكن ضمن ما أمر به الشرع.
يقول الشاطبي- رحمه الله- : " فإن أصل الحكم بالظاهر مقطوع به في الأحكام خصوصًا ، وبالنسبة إلى الاعتقاد في الغير عمومًا أيضا ; فإن سيد البشر - صلى الله عليه وسلم - مع إعلامه بالوحي يجُرِي الأمور على ظواهرها في المنافقين وغيرهم - وإن علم ببواطن أحوالهم - ولم يكن ذلك بمخرجه عن جريان الظواهر على ما جرت عليه " أهـ [2].

فعِلْم النبي- صلى الله عليه وسلم- ببواطن المنافقين لم يمنعه من إجراء أحكامهم على الظاهر، وكذلك إذا رأى الإنسان رؤيا فيها تحذير من شخص فإنه يأخذ حذره ويتحفظ في التعامل معه، ولكنه يجري الأحكام في التعامل معه على الظاهر؛ فإن الرؤيا لن تكون أقوى وأصدق من علم النبي- صلى الله عليه وسلم- ببواطن المنافقين.

الثاني: " أن يكون العمل عليها لفائدة يرجو نجاحها؛ فإن العاقل لا يدخل على نفسه ما لعله يخاف عاقبته" [3].

وهذا يعني أنه قد يأتي في الرؤيا ما يدله على خير له فيعمل من أجل تحقيقه حتى يظفر به أو تدله الرؤيا على شر سيقع فيعمل على التحفظ والاستعداد لتلافيه أو تقليل آثاره.

الثالث:" أن يكون فيه تحذير أو تبشير ليستعد لكل عدته ; فهذا أيضًا جائز ، كالإخبار عن أمر ينزل إن لم يكن كذا ، أو لا يكون إن فعل كذا ; فيعمل على وفق ذلك على وزان الرؤيا الصالحة ، فله أن يجري بها مجرى الرؤيا" [4].

وهذا يعني أن الرؤيا قد يأتي فيها تحذير فيستعد لذلك، أو يأتي فيها تبشير فيستعد لذلك أيضًا، ويأخذ لكلٍ عُدّته, وهذا أيضا من الجائز في العمل بالرؤى.

ومن تأمل حال الناس وواقعهم وجد أنهم مفطورون على العمل بالرؤى- وبخاصة فيما كان فيه تبشير لهم- فيتهيأون نفسيًّا لذلك ويستعدون له، وكذلك إذا كان في الرؤى تحذير وبيان لخطر قد يداهمهم يستعدون للتعامل معه وتخفيف آثاره وأضراره- قدر الاستطاعة- فإن أي عاقل حريص على أن يبتعد عما فيه ضرر عليه ويقترب مما فيه خير ومنفعة له.


-  ترْك المباح لرؤيا رآها:

و من الوجوه الجائزة في العمل بالرؤيا أن يترك الرائي بسببها  أمرًا مباحًا أو أمرًا جائزًا له، وهذا لا حرج فيه أيضًا؛ يقول الشاطبي- رحمه الله- في معرض الحديث عن كرامات الأولياء وما يحصل لهم من الكشف الذي قد يحملهم على الامتناع عن تناول بعض المباحات, وأن هذا لم يخرج عن إطار الشريعة، ويذكر أجوبة عن أفعالهم هذه ومنها قوله: " أو نقول : كان المتناوَل مباحا له ; فتركه لهذه العلامة كما يترك الإنسان أحد الجائٍزَيْنِ؛ لمشورة أو رؤيا أو غير ذلك " [5].

فالشاطبي يرى أن الإنسان يمكن أن يترك بعض المباحات- سواء كانت أفعالاً أو أقوالاً أو مطعوماتٍ أو مشروباتٍ- وأن هذا أمر مباحٌ؛ لأنه ينتقل من جائز إلى جائز كما لو كان الحامل له على ذلك مشورةً من أحد إخوانه أو رؤيا رآها أو رؤيت له؛ فالرؤيا يمكن العمل بها في ترك أمر مباح أو جائز، وليس هذا من تحريم المباح وإنما هو ينتقل بهذا من مباح إلى مباح ومن جائز إلى جائز ، وعلى هذا تُحمل كثير من قصص رؤى السلف والعلماء وعملهم بها ؛ فإنها دائرة بين ترك شيء والإقبال على آخر ضمن المباحات أو الأمور الجائزات والله أعلم.


العمل بالرؤيا اذا وافقها سبب ظاهر:

و من الوجوه الجائزة في العمل بالرؤى ، العمل بها إذا وافقها سببٌ ظاهر . يقول الشاطبي- رحمه الله- : " وعلى هذا لو رأى رؤيا بأن هذا الماء المُعيّن مغصوب أو نجس ، أو أن هذا الشاهد كاذب ، أو أن المال لزيد وقد تحصّل بالحجة لعَمْرو ، أو ما أشبه ذلك ; فلا يصح له العمل على وفق ذلك ما لم يتعيّن سبب ظاهر ; فلا يجوز له الانتقال إلى التيمم ، ولا ترك قبول الشاهد ، ولا الشهادة بالمال لزيد على حال ; فإن الظواهر قد تَعيَّن فيها بحكم الشريعة أمر آخر ; فلا يتركها اعتمادًا على مجرد المكاشفة أو الفراسة ، كما لا يعتمِد فيها على الرؤيا النومية ، ولو جاز ذلك ; لجاز نقض الأحكام بها وإن ترتبت في الظاهر موجباتها ، وهذا غير صحيح بحال فكذا ما نحن فيه"  
[6]
و من هنا يتبين - من خلال ما ذكره الشاطبي أنه لا يجوز العمل بمجرد الرؤيا التي دلت على أن هذا الماء نجس أو مغصوب و هو يريد الوضوء به, فلا يترك الوضوء به و ينتقل إلى التيمم بمجرد هذه الرؤيا التي رآها؛ لأن الشرع لا يجيز له العدول عن الماء إلى التيمم إلا بوجود سبب ظاهر يمنع من استعمال الماء ، لكن - يقول الشاطبي - لو انضم إلى هذه الرؤيا التي رآها سبب ظاهر في الواقع يعتبر كقرينة على أن الماء قد تنجس أو أنه مغصوب فعند ذلك يجوز له العمل بهذه الرؤيا التي وافقها سبب ظاهر و هذا السبب الظاهر الذي يمكن اعتباره كقرينة مثاله كما لو أبصر حول الإناء الذي به الماء كلبًا قريبًا منه؛ فإن هذا مظنة لأن يكون الكلب قد ولغ فيه ، أو كان هذا الإناء الذي به الماء واقعًا ضمن مجموعة من الأشياء يعلم أنها مغصوبة و لا يدري إن كان هذا الماء مغصوبًا أم لا، فهذا سبب و قرينة إذا انضمت إلى الرؤيا قوي العمل بها ، لكن إن كان هناك ماء آخر يعلم طهارته و أنه مباح فاستعمله و توضأ به و ترك الماء الأول الذي دلت الرؤيا على أنه نجس أو مغصوب فلا حرج عليه في هذه الحال أن يعمل بالرؤيا- و لو لم يكن هناك سبب ظاهر-؛ لأنه في هذه الحال عدل عن ماء إلى ماء و هو تركٌ لمباح إلى مباح آخر و انتقالُ من أمر جائز إلى أمر جائز آخر فيجوز له ذلك كما تقدم بيانه من كلام الشاطبي نفسه عند الحديث عن ترك المباح لرؤيا رآها .



يتبع..




[1] انظر (الموافقات) للشاطبي, ج:2 -ص:471.
[2] انظر (الموافقات) للشاطبي, ج:2 -ص:467.
[3] المصدر السابق , ص:471-472.
[4] المصدر السابق, ص:473.
[5] المصدر السابق, ص:469.
[6] انظر (الموافقات) للشاطبي,ج:2 -ص:458 (بتصرفٍ يسير).

Leave a Reply

Subscribe to Posts | Subscribe to Comments

- Copyright © مجالي البوق - Skyblue - Powered by Blogger - Designed by Johanes Djogan -